
وكان السلطان محمود بن سبكتكين حازمًا عادلًا، لا يتجرَّأ أحدٌ على إظهار المعصية في دولته من خمر أو معازف أو أفكار المعتزلة والروافض. وكان يُعَظِّم العلماء ويُكرمهم، فقصدوه من أقطار البلاد، وكان عادلًا في رعيَّته رفيقًا بهم محسنًا إليهم, وكان كثير الغزو والجهاد، وفتوحاته مشهورة.
وكان السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين نصيرًا كبيرًا للأدب والفنون، وكان يعيش في عهده كثير من العلماء والشعراء؛ منهم:أبو ريحان السروني (الفيزيائي والعالم الموسوعي)، وأبو الفتح البستي، والعسجدي، والبيهقي، والفرخي، والمنوجهري، والعنصري، والكسائي، والدقيقي، والغضائري.. وغيرهم. بدأ السلطان محمود بن سبكتكين نشاطًا جهاديًّا واسعًا؛ أثبت أنه من أعاظم الفاتحين في تاريخ الإسلام؛ حتى قال المؤرِّخُون: «إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح الخليفة عمر بن الخطاب». وقد اتَّبع سياسة جهادية في غاية الحكمة؛ تقوم أساسًا على تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية عسكريًّا وسياسيًّا وعقائديًّا وهو الأهم؛ فعمل على ما يلي:
1- القضاء على كل المذاهب والعقائد الضالَّة المخالفة لعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة؛ مثل: الاعتزال، والتشيع، والجهمية، والقرامطة، والباطنية. والعمل على نشر عقيدة السلف الصالح بين البلاد الواقعة تحت حكمه.
2- قضى على الدولة البويهية الشيعية؛ والتي كانت من عوامل التفرُّق والانحلال في الأُمَّة الإسلامية كلها؛ حتى بلغ بها الأمر في التفكير بالعودة إلى العصر الساساني الفارسي، واتخاذ ألقاب المجوس؛ مثل شاهنشاه، وبالقضاء على تلك الدولة الرافضية قَدَّم السلطان محمود أعظم خدمة للإسلام.
3-أزال الدولة السامانية؛ التي بلغت حالة شديدةَ السوء من الضعف والانحلال أثَّرَتْ بشدَّة على سير الحملات الجهادية والفتوحات على الجبهة الهندية.
4-أدخل بلاد الغور في الإسلام؛ وهي في وسط أفغانستان الآن، وهي مناطق صحراوية شاسعة، وأرسل إليهم مُعَلِّمين ودعاةً وقُرَّاءً، وقضى على القرامطة الصغيرة بالمُلْتَان بباكستان الآن، وكان يقودها رجل اسمه أبو الفتوح داود، وأزال عن هذه البلاد العقائد الضالَّة والفرق المنحرفة؛ مثل: الباطنية والإسماعيلية.
5-أعلن خضوع دولته الضخمة وتبعيتها لـلخلافة العباسية ببغداد، وخطب للخليفة العباسي القادر بالله، وتصدَّى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين التاهرتي، الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية ببلاد محمود بن سبكتكين، وأهدى بغلته إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي وقال: «كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحِّدين».
وهكذا ظلَّ السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين يُرَتِّب للبيت من الداخل، ويُقَوِّي القاعدة إيمانيًّا وعقائديًّا وعسكريًّا، ويُكَوِّن صفًّا واحدًا استعدادًا لسلسلة الحملات الجهادية الواسعة لفتح بلاد الهند.
ظلَّ فتح الهند حُلْمًا كبيرًا يُراود الخلفاء والسلاطين طيلة أربعة قرون؛ منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أُرسلت في ذلك الحملات والجيوش لفتح تلك البلاد الشاسعة، وكانت أُولى الحملات الناجحة في عهد الوليد بن عبد الملك على يد محمد بن القاسم الثقفي؛ فتوغَّل في شمال الهند وفتح مدينة الدَّيْبُل وأقام بها مسجدًا، وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي، وأصبحت الدَّيْبُل أول مدينة عربية في الهند. ثم توالت الحملات؛ ولكنْ لم تكن في مثل قوَّة الحملات الأولى أيام الدولة الأموية، فضعُفَ وجودُ المسلمين في الهند، وظلَّ المسلمون في عهد الدولة العباسية محافظين على ما فتحوه، وتوسَّعُوا قليلاً في ضمِّ أجزاء أخرى إلى دولتهم، حتى سيطر المسلمون على المنطقة الواقعة بين كابل وكشمير والمُلْتَان، إلى أن يسَّر الله فتح الشمال الهندي كله، ومهَّدَ الطريق للفاتحين من بعده على يد بطلنا السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين؛ حيث قاد محمود بن سبكتكين ست عشرة حملة عسكرية إلى شمال الهند؛ فقضى على ملوكها الواحد تلو الآخر؛ فقاد حملة ضدَّ الملك الهندي جايبال وذلك سنة (392هـ= 1001م)؛ وكان أكبر ملوك الهند على الإطلاق، وأكبر عقبة في وجه الدعوة الإسلامية، وقاد -أيضًا- حملة ضد الملك انندبال سنة (398هـ= 1007م), وواجه الملك ناكر كوت سنة (400هـ= 1009م) وألزمه بدفع الجزية, وواجه -أيضًا- الملك راجا ناندا سنة (410هـ= 1019م) وأدَّت تلك المعركة إلى انتشار واسع للإسلام في منطقة كالنجار، وكان قد قضى على ملك الكجرات بيدا سنة (409هـ= 1018م).

عرض الهنود على السلطان محمود بن سبكتكين أموالًا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار مَنْ أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم؛ للمجهود الضخم والأموال الطائلة التي أُنفقت على تلك الحملة الجهادية، فقال: «حتى أستخير الله –عز وجل». فلمَّا أصبح قال: «إني فكَّرْتُ في الأمر الذي ذُكِرَ فرأيتُ أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أَحَبُّ إليَّ من أن يُقال: الذي ترك الصنم لأجل مال يناله من الدنيا» . وفي ذي القعدة 416هـ= يناير 1026م انتصر المسلمون على الهنود بعد مقاومة عنيفة, وقد قُتل من الهنود خمسون ألفًا كانوا يُدَافِعُون عن معبد سومنات، ودخل محمود المعبد وحطَّم الصنم الأكبر، فوجد عليه وفيه من الجواهر والذهب والجواهر النفيسة ما يزيد على ما أنفقه في الحملة بأضعاف مضاعفة, وكانت عنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبًا وفضة عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار (أي عشرين مليونًا) !
ظلَّ السلطان محمود في جهاد دائم لا يَكَلُّ ولا يَمَلُّ؛ حتى لازمه مرض في البطن أواخر أيامه, وكان يزداد عليه يومًا بعد يومٍ, وكان يتحامل على نفسه أمام الناس، وكان لا يستطيع أن يُكَلِّم الناس إلَّا مُتَّكِئًا من شدَّة المرض، ومات رحمه الله في غزنة يوم الخميس 23 من ربيع الآخر (421هـ= 1030م)، وقبره بها ما زال معروفًا، وكانت مدَّة حكمه 35 سنة، وبلغت رايته الجهادية أماكن لم تبلغها راية قطُّ، كما أقام شعائر الإسلام في أقصى ربوع الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق